يُعدّ ابن خلدون من كبار العلماء الذين أنجبتهم شمال إفريقيا، فقد قدّم عدّة نظريّات في مجالي علم التاريخ، وعلم الاجتماع، وتركز اهتمامه على هذين العلمين لإدراكه بأنّهما الطّريق الأصح لمعرفة مكنونات النفس البشرية على مرّ العصور، وفهم قيام المجتمعات الإنسانية بقوانين، وضوابط لم تمنهج بقانون، أو تطبّق بسلطة.
ولد أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن خلدون عام ألف وثلاثمئة واثنين وثلاثين في تونس، وتوفّي عام ألف وأربعمئة وستة في مصر، من أشهر كتبه العبر، والذي تُعتبر مقدّمته كتاباً قائماً بحد ذاته، لذا أطلق عليها الفلاسفة، والنقاد، والباحثين في علم الاجتماع مُقدّمة ابن خلدون.
تُعتبر مقدمة ابن خلدون مقدّمةً جامعة لأسس علم الاجتماع؛ حيث وضّح بشكلٍ جليّ فيما لا يدع مجالاً للنقاش أو النقض أنّ هذا العلم هو علم مستقل بذاته، يبحث في موضوع العمران البشري، والاجتماع الإنساني، ويهتمّ بمسائل تُبيّن ما يلحقه من العوارض، والأحوال المتعلّقة بذاته واحدة تلو الأخرى، وهذا هو شأن كل واحد من العلوم وضعياً كان أم عقلياً.
وصف ابن خلدون لعلم الاجتماعيَصف ابن خلدون علم الاجتماع بقوله: (وأعلم أنّ الكلام في هذا الغرض مستحدث الصنعة، غريب النزعة، عزيز الفائدة، أعثَر عليه البحث، وأدّى إليه الغوص، وهو ليس بِعلم الخطابة، وإنّما هو الأقوال المُقنعة النافعة في استمالة الجمهور إلى رأيٍ أو صدهم عنه، ولا هو أيضاً من علم السياسة المدنية، وكأنه علم مستنبط النشأة، ولعمري أنني لم أقف على الكلام في منحاه لأحد من الخليقة، ولا أدري هل غفلوا عن ذلك؟ وليس الظن بهم، أو لعلّهم كتبوا في هذا الغرض واستوفوه ولم يصل إلينا؛ فالعُلوم كثيرة، والحُكماء في أمم النوع الإنساني متعدّدون، وما لم يصل إلينا من العلوم أكثر مما وصل).
يُعبّر ابن خلدون في مقدمة كتاب العبر عن اكتشافه لعلم الاجتماع، وموضوعه الخاص به؛ فلقد أدرك أنه من العلوم الجديدة التي قد غفل عنها السابقون من العلماء، أو ربما عرفوه، ودرسوه، ولكنه لم يصل لمن بعدهم، وهذا شأن العديد من العلوم التي اندثرت مع الزمان، واختفت تحت طَي النسيان، والقدم. أكّد ابن خلدون مشروعية هذا العلم، سواءً أكان لاستحقاقه لأن يصنف كعلم مستقل، وجديد قائم بذاته، ومنفصلاً عن غيره، أو كونه علماً لم يسبق له إليه أحد من المفكّرين السابقين.
مفهوم علم الاجتماع عند ابن خلدونيُعرّف ابن خلدون علم الاجتماع بأنّه "العلم الذي يعرض لطبيعة العمران البشري من الأحوال مثل: التوحش، والتأنس، والعصبيات، وأصناف التغلبات، للبشر على بعضهم البعض، وما ينشأ عن ذلك من الْمُلْك، والدول ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم، ومساعيهم من الكسب، والمعاش، والعلوم، والصنائع، وأثر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الأحوال، وما لذلك من العلل، والأسباب".
في هذا التعريف أدرك ابن خلدون أنّ الظواهر الاجتماعية هي موضوع هذا العلم الجديد، ومنهجه وصفي تجريبي، وأوضح أنّ الغاية منه هي دراسة تلك الظواهر، واستخلاص القوانين المعبرة عنها، وهي على حد قوله ليست خاضعة لمزاجية البشر، ولا للمصادفات، بل إن لها عللاً، وأسباباً، وذلك يعود لخضوع المجتمع لقوانين تنظمه، وتدير شؤونه.
استطاع ابن خلدون من بحثه واكتشافه لهذا العلم أن يسبق العالم أوغست كونت، والذي قال إنّ الظواهر الاجتماعية خاضعة لقوانين، ولا تسير وفق الأهواء، والمصادفات، وما على الناس إلا إدراكها، ومعرفتها.
المفهوم العام لعلم الاجتماععلم الاجتماع هو ذلك العلم الذي يدرس الظواهر، والنظم، والعلاقات الاجتماعية دراسةً علمية باستخدام المنهج العلمي، والذي يوصلنا إلى معرفة الظواهر التي تنظم الظواهر، والقوانين، والعلاقات الاجتماعية في المجتمعات. إنّ الغاية من دراسة علم الاجتماع هي:
المقالات المتعلقة بمفهوم علم الاجتماع عند ابن خلدون